تعرّض علماء الإسلام وفلاسفته إلى عقيدة التثليث المسيحية، وأعلنوا أنها غير العقيدة التي حاربها الإسلام، وندّد بها القرآن. ونورد هنا ما ذكره صاحب المشرع نقلاً عن نسخة قديمة من كتاب أصول الدين لأبي الخير بن الطيب الذي عاصر الإمام أبا حامد الغزالي. وهو:
قال بعض المسيحيين لأبي الخير بن الطيب: إن الإنجيل بقوله: امضوا وتلمذوا كل الأمم وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس قد أوجب عليكم الاعتقاد بثلاثة آلهة. فأجابه: لا ريب في أن لباب الشريعة المسيحية هو الإنجيل ورسائل بولس الرسول وأخبار الحواريين. وهذه الكتب، وأقوال علماء النصارى المنبثة في آفاق الأرض تشهد بتوحيدهم، وبأن أسماء الآب والابن والروح القدس إنما هي خواص لذاته الواحدة. ولولا حب الإيجاز لأتيت على إثبات عقيدتهم مفصلاً، ولكنني مع ذلك أقتضب من أقوالهم الناطقة بصحة معتقدهم وقويم إيمانهم، ما لا يخلو من فائدة فأقول: يرى النصارى أن البارئ تعالى جوهر واحد موصوف بالكمال، وله ثلاث خواص ذاتية كشف المسيح عنها القناع، وهي الآب والابن والروح القدس، ويشيرون بالجوهر ذاته الذي يسمونه البارئ ذا العقل المجرد إلى الآب. والجوهر نفسه الذي يسمونه ذا العقل العاقل ذاته إلى الابن. والجوهر عينه الذي يسمونه ذا العقل المعقول من ذاته إلى الروح القدس. ويريدون بالجوهر هنا ما قام بنفسه مستغنياً عن الظرف .
وقد أشار الغزالي إلى عقيدتهم هذه في كتابه الرد الجميل فقال: يعتقد النصارى أن ذات البارئ تعالى واحدة في الجوهر ولها اعتبارات.
فإن اعتبر وجودها غير معلق على غيره، فذلك الوجود المطلق، هو ما يسمونه بأقنوم الآب.
وإن اعتبر معلقاً على وجود آخر، كالعلم المعلق على وجود العالم فذلك الوجود المقيد، هو ما يسمونه بأقنوم الابن أو الكلمة.
وإن اعتبر معلقاً على كون عاقليته معقولة منه، فذلك الوجود المقيد أيضاً هو ما يسمونه بأقنوم الروح القدس، لأن ذات البارئ معقولة منه.
والحاصل من هذا التعبير الاصطلاحي: أن الذات الإلهية واحدة في الجوهر، وإن تكن منعوتة بصفات الأقانيم.
ويقولون أيضاً:
إن الذات من حيث هي مجردة لا موصوفة، عبارة عن معنى العقل، وهو المسمى عندهم بأقنوم الآب.
وإن اعتبرت من حيث هي عاقلة ذاتها، فهذا الاعتبار عبارة عن معنى العاقل، وهو المسمى بأقنوم الابن والكلمة.
وإن اعتبرت من حيث أن ذاتها معقولة منها، فهذا الاعتبار عبارة عن معنى المعقول، وهو المسمى بأقنوم الروح القدس.
فعلى هذا الاصطلاح، يكون العقل عبارة عن ذات الله فقط، والآب مرادف له، والعاقل عبارة عن ذاته بمعنى أنها عاقلة ذاتها، والابن أو الكلمة مرادف له، والمعقول عبارة عن الإله المعقولة ذاته منه، وروح القدس مرادف له أيضاً .
ثم عقّب قائلاً: إذا صحت المعاني فلا مشاحة في الألفاظ ولا في اصطلاح المتكلمين عن كتاب المشرع للقس بولس سباط الطبعة الثانية صفحة 21 - 25) .
الخلاصة
من تفسير الإمام الغزالي لعقيدة التثليث المسيحية، وتعليقه عليها يتضح أن فلاسفة الإسلام وعلماءه أدركوا أن عقيدة المسيحية الصحيحة في التثليث هي غير تلك العقيدة المبتدَعَة التي أشار إليها القرآن وندَّد بها.
ومعنى هذا أن الإسلام لم يحارب التعليم الصحيح عن عقيدة التثليث المسيحية، بل حارب التعليم المبتدع فيها، وأن علماءه وفلاسفته قد شهدوا بأن تعليم المسيحية عن التثليث لا يناقض التوحيد.